جلس جاسم قربي في الحديقة حيث نأخذ أولاد شقيقتي ليلعبوا كان ينظر إلي بطريقة غريبة، يتأملني جيداً حتى قلت له هل أشبه أحداً تعرفه..
قال نعم أنت تشبهين والدتي ثم لف يديه على عنقي واخذ بالبكاء وأنا لا أعرف ماذا افعل فحضنته وقلت له أين أمك الآن.. فقال سأخبرك عنها فهي أفضل أم في العالم، صحيح أنه فقط في العاشرة لكن طريقته في سرد قصته مذهلة أنا شخصياً بكيت..
قال لي: توفيت والدتي بعد معاناة طويلة وصراع مرير مع المرض الخبيث الذي فاز بمعركته مع جسدها الغض، كنا أطفالاً لا نفقه شيئاً
سوى انها مريضة ونائمة نراها تتعذب وتتألم أمامنا، كانت تقضي معظم الأيام في المستشفى أخذها والدي وسافر بها إلى دول عديدة لعل وعسى، كان يعيش على أمل ان تحصل معجزة ما وتشفى لكن لم يحصل شيئاً فحالتها كانت تتراجع باستمرار وبسرعة كبيرة حتى العلاج الكيميائي لم يعد ينفع قال الطبيب المعالج لوالدي دعها تقضي أيامها الأخيرة بسلام ودون أشعة وآلام، سوف نزيد لها جرعات المسكنّ لكي تتحمل الألم واطلب من الله ألا تتعذب، وفي ليلة لن أنساها ما حييت جاء والدي إلى غرفتنا وقال لنا ان والدتنا تريد رؤيتنا، وبالرغم من صغر سني إلا أني شعرت وقتها بقلبي يخفق بشدة وأخذت ابكي..
حملني أبي وقال لي جاسم حبيبي لا تدع والدتك تراك وأنت تبكي فسوف تحزن وتبكي بدورها، عندما دخلنا وجدنا جدتي والدة أبي ووالدة أمي وشقيقاتها كلهن حول سريرها وكان والدها يجلس على كرسي في الزاوية وعيناه تائهتان، نظر الجميع إلينا وخرجوا تباعاً ركضت شقيقتي إلى سرير أمي ونامت بقربها اما شقيقي وانا فقد مدت إلينا يدها وقالت بصوت خفيف اقتربا مني قليلاً اريد ان اقول لكما شيئاً اقتربنا فقالت أنا سوف اذهب في رحلة قد تطول لذلك اريدكم ان تعدوني بألا تعذبوا والدكم وجدتكم..
اسمعوا كلامه ونفذوا كل ما يطلبه منكم..
عدوني بأن تأكلوا جيداً وتدرسوا جيداً حتى تكونوا من الناجحين وانا سوف أرعاكم من بعيد فسألتها شقيقتي الا نستطيع ان نذهب معك فقالت باسم الله عليكم يا حبيبتي لا يا عمري لا سمح الله فقلت لها: هل انت ذاهبة لأننا كنا نعذبك إذا كان هذا هو السبب فنحن نعدك بأن نسمع الكلام ونطيعك بأي شيء، ابتسمت وقالت لا يا حبيبي فانتم لم تعذبوني بل بالعكس تماماً انتم من ادخل البهجة والفرح إلى قلبي فقال شقيقي حسناً يا أمي ولكن اريد ان اطلب منك ان تكلمينا كل يوم في الهاتف حتى نسمع صوتك، صمتت والدتي وتدحرجت دموعها على خديها وقالت لا اعتقد بأنه يوجد هاتف حيث سأذهب على كل حال اريدكم ان تعدوني انتم ان تأخذوا بالكم من بعضكم البعض وتحبوا بعضكم كما أنا أحبكم ولا تدعوا والدكم يغضب منكم فسوف أكون حزينة وانتم بالتأكيد لا تريدون ذلك فوعدناها بشرط ألا تتأخر علينا لأننا سوف نشتاق لها جداً، رقدنا تلك الليلة كلنا على سريرها وبجانبها نمنا في حضنها للمرة الأخيرة وعندما استيقظنا كان والدي قد اصطحبها الى المستشفى وفي المساء دخلت في غيبوبة دامت أربعة أيام انتقلت بعدها الى جوار ربها.
كنا نرى والدي ونسمع بكاءه في المساء وعندما نسأله عن السبب يقول ان رأسه يؤلمه..
كنا نسمع جدتي وهي تكلمه وتقول له: ان البكاء على الميت حرام والموت حق علينا اطلب من الله القدير ان يسكنها فسيح جنانه ويغفر لها ويرحمها وليبدلها دارا خيراً من دارها ويدخلها الجنة ويخلصها من عذاب القبر ومن عذاب النار، هيا يا ولدي اسمع كلامي فلديك أطفال يحتاجونك وهم أنفسهم ضائعون دون والدتهم يجب عليك أن تساعدهم ويجب ان يعودوا لمدارسهم إذ لا يمكن ان تدعهم في المنزل الى الأبد، عدنا الى مدرستنا بعد فترة وكنا نتوقع ان نجد والدتنا في انتظارنا كما كانت تفعل من قبل كنا نأمل ان نراها ولو قليلاً فنحن سمعنا أنها ماتت لكننا لم نعرف معنى الكلمة لم نعلم انها أصعب حالة ممكن ان يمر بها الانسان حين يفقد من يحب الى الأبد كان كل أملنا ان نراها من جديد وتأخذنا بين ذراعيها وتقبلنا، وفي يوم تشاجرت مع صديق لي في المدرسة عندما قال لي ان أمي ماتت فقلت له نعم هذا صحيح لكنها ستعود قال لي اقول لك ماتت فكيف تعود؟ ان الأموات لا يعودون فهم ينامون تحت الأرض في التراب فقلت له انت كاذب فأمي ميتة في المستشفى وعندما تتحسن ستعود إلينا، كنت اعتقد بأن كلمة ماتت أو ميتة التي ترددت كثيراً في المنزل تعني المرض أو انها مريضة، وعندما وصلت الى المنزل توجهت بسرعة الى غرفة والدي وسألته هل ماتت أمي؟ صمت ونظر إلي بدهشة وقال من أخبرك بذلك..
قلت ماتت يعني في المستشفى مريضة أليس كذلك لأن صديقي يقول بأنها نائمة تحت الأرض ولن تستيقظ وهي لا تتنفس ولا تتكلم ولن تعود ولن نراها أبداً فهل هذا صحيح؟ كنت انتظر ان يكذّب والدي صديقي وينعته بالغبي كما فعلت لكنه فاجأني حين قال لي نعم انه على حق فوالدتك لن تعود فعلاً لكنها في مكان أفضل بكثير من هنا وهي سعيدة هناك، عقدت الصدمة لساني شعرت بأن الغرفة تدور بي ولم اشعر الا وأنا ملقى على سرير يحيط بي عدد من الأشخاص ووالدي يصرخ كالمجنون بهم أين الطبيب، فتحت عيني وقلت له أبي ماذا يجري أين أنا؟ فاندفع إلي وأخذني بين ذراعيه وقال جاسم حبيبي الحمدلله كدت أموت من خوفي عليك، فقلت لا لا تقول انك ستموت انت أيضاً وتتركنا، كانت تلك الحادثة مثل الصفعة التي أيقظتنا نحن وهو فقد قال له الطبيب في المستشفى ان سبب الإغماء كان من هول الصدمة والطريقة التي علمت بها بمعنى الموت وطلب منه عرضي على طبيب نفسي حتى يساعدني وشقيقي لنتخطى الموضوع دون أن يترك أثره علينا بطريقة سيئة، صحيح ان الطبيب ساعدنا وعائلة والدتي ووالدتي لكننا كنا بحاجة الى أن نشعر بالحنان منها.. كنا بحاجة كبيرة لها، نحن نشتاق إليها كثيراً نفتقد وجودها بكل لحظة صحيح أن جدتي تعيش معنا وتحبنا لكن أمي لا مثيل لها.. إننا ننظر كل يوم الى صورتها ونكلمها ألم تقل انها ترعانا من بعيد وترانا ثم لدينا ملابسها التي نضعها بجانبنا في السرير فنتنشق عبيرها ونشعر بوجودها انها فكرتي أنا، حاول والدي ان يردعني لكن الطبيب قال له لا بأس فإنها فترة وتنتهي وقال لنا ان الحزن مثل الصابون يذوب مع الوقت الى ان ينتهي فهل ينتهي حزني على أمي، وهل فعلا سوف أتمكن من نسيانها لا اعرف فأنا ما زلت صغيراً.